HTML5 Icon

بحث : كيفية أداء الإخفاء الشفوي وخطأ من يقول بإبقاء فرجةٍ بين الشفتين عند الأداء بالأدلة


هذا هو البحث الذي تحدثتُ عنه في الدرس (وأنبه على أني اختصرت الأقوال مقتصرا على الشاهد قدر المستطاع حتى لا أطيل عليكم):

الميم الساكنة إذا لقيت باءً فقد اختلف أهل الأداء فيها؛
فذهب بعضُهم إلى إظهارها، كمكي بن أبي طلب، وابن المنادي، وشُريح الرُّعَيْني، وأبي العلاء العطار، والمرادي،
وذهب الجمهور إلى إخفائها مع الغنة -وعلى رأسهم ابن مجاهد، والداني، وابن الجزري-، وهو الذي عليه العمل، ولا سيما عند المتأخرين من أهل زماننا ومَنْ قبلَهم؛ حيث إن الإظهار انقطعت أسانيده عندهم فلم يَعُدْ له إسنادٌ متصل –فيما نعلم-، فيتعين عندهم حينئذ الإخفاء لا غير.

وإخفاء الميم عند الباء يسميه كثيرون: إخفاء شفويا؛ نسبة إلى محله وهو الشفة، تمييزا له عن إخفاء النون.

وكيفية أداء الإخفاء الشفوي: أن تطبق الشفتين للميم إطباقا عاديّا، يصحب هذا الإطباق غنةٌ مطوَّلةٌ، ثم إذا انتهى زمن الغنة تضغط الشفتين للنطق بالباء، أي تلفظ بالباء قبل فتح الشفتين، بتقوية انطباقهما، وتجعل المنطبق من الشفتين في الباء أَدْخَلَ من المنطبق في الميم؛ إذ من المعلوم أن الباء أدخلُ وأقوى انطباقا من الميم؛ لأن انطباقَهما في الميم القصدُ منه وَضْعُ عائقٍ في طريق النَّفَس لمنع خروجه من الفم، وتحويلِه إلى الخياشيم، وذلك يتحقق بأدنى انطباق، أما انطباقهما في نطق الباء فإن القصد منه تحقيق صفة الشدة، وهي لا تتحقق إلا بتقوية الانطباق.

وليُحْذَر مِن كَزِّ الشفتين عن نطق الميم، والمراد بالكز زيادة الضغط عليهما. وأكثر من يقعون في هذا المحذور يقعون فيه بسبب التباس الأمر عليهم؛ فهم يظنون أن المراد بالإطباق في كلام العلماء إطباقٌ زائد عن العادة. وليس الأمر كذلك؛ وإنما المراد به وضع الشفة على الشفة كهيئة وضعهما عند نطق الميم المدغمة، يعني أنه إطباق عادي زمنه طويل مصحوب بغنة.

وأما ما يفعله كثيرون في زماننا من أهل مصر ومَن أخذ عنهم من إبقاء فرجةٍ بين الشفتين عند أداء هذا الإخفاء؛ فهو خطأٌ، ولا يوجد في مصنفات الأئمة الأوائل –كما ذكر عددٌ من الباحثين-، بل إن عددا من الأئمة نصوا على انطباق الشفتين عند أداء هذا الإخفاء.

وإليك بعض النقول والحجج في تأييد ما قررناه:

قال الداني في «التحديد»: «هي مخفاة؛ لانطباق الشفتين عليهما كانطباقهما على إحداهما» اهـ.

وقال والدُ ابنِ الباذِش -كما في «الإقناع»-: «إلّا أن يريد القائلون بالإخفاء انطباقَ الشفتين على الحرفين انطباقا واحدا، فذلك ممكن في الباء وَحْدَهَا [-يعني: دون الفاء والواو-]» اهـ.

وقال ابنُ الجزري في «النشر»: «...ثُمَّ إِنَّ الآخِذِينَ بِالإِشَارَةِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَجْمَعُوا عَلَى اسْتِثْنَاءِ المِيمِ عِنْدَ مِثْلِهَا وَعِنْدَ البَاءِ، وَعَلَى اسْتِثْنَاءِ الباء عند مِثْلِهَا وَعِنْدَ المِيمِ. قَالُوا: لِأَنَّ الإِشَارَةَ تَتَعَذَّرُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ انْطِبَاقِ الشَّفَتَيْنِ.
قُلْتُ: وَهَذَا إِنَّمَا يَتَّجِهُ إِذَا قِيلَ بِأَنَّ المُرَادَ بِالإِشَارَةِ الإِشْمَامُ، إِذْ تَعْسُرُ الإِشَارَةُ بِالشَّفَةِ، وَالبَاءُ وَالمِيمُ مِنْ حُرُوفِ الشَّفَةِ، وَالإِشَارَةُ غَيْرُ النُّطْقِ بِالحَرْفِ، فَيَتَعَذَّرُ فِعْلُهُمَا مَعًا فِي الإِدْغَامِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ وَصْلٌ، وَلَا يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فِي الوَقْفِ؛ لِأَنَّ الإِشْمَامَ فِيهِ ضَمُّ الشَّفَتَيْنِ بَعْدَ سُكُونِ الحَرْفِ، وَلَا يَقَعَانِ مَعًا» اهـ.

وقال ابن غلبون في «التذكرة»: «واعلم أن اليزيدي وعبد الوارث وشجاعا رَوَوْا عن أبي عمرٍو البصري أنه لم يكن يُشِمُّ في الميم والباء -مثل: {والله أعلم بما}-، وروى عباسٌ عن أبي عمرٍو أنه كان يشم الباء والميم ويشمُّ في سائر الحروف. وبما روى اليزيديُّ آخُذُ؛ لصحته؛ وذلك أنه إنما يعني بالإشمام هاهنا أنه يشير إلى حركة الرفع والخفض في حال الإدغام؛ ليدل على أن هذا الحرف المدغَم يستحق حركةَ هذه الحركةِ في حال الإظهار؛ حرصا على البيان، وذلك متعذر في الميم مع الميم، وفي الباء مع الباء؛ من أجل انطباق الشفتين فيهما، وأما الميم مع الباء فهي مخفاة لا مُدَّغَمَة، والشفتان أيضا ينطبقان معهما» اهـ.

وقال عبد الوهاب القرطبي في «الموضح»: «وأمّا حروف الغنّة فالنون -ساكنةً ومتحرّكةً- والميمُ، إلاّ أنّ الميم أقوى من النون؛ لأنّ لفظها لا يزول، ولفظ النون قد يزول فلا يبقى منها إلاّ الغنّة ...» اهـ.

علق محمد يحيى شريف الجزائري على كلام القرطبي قائلا: «فقوله  أنّ الميم لا تزول؛ يعني أنّ الشفتين تنطبقان في الميم في جميع الأحوال حتّى في الإخفاء، لذلك لم تَزُلْ، بخلاف النون المخفاة؛ فإنّها تزول عند الإخفاء؛ لانفصال طرف اللسان عن الحنك، فلا بيقى من صوتها إلا الغنّة. 
 ولو تركنا الفرجة في إخفاء الميم لزالت كما في النون. فإخبار صاحب «الموضح» أنّ الميم لا تزول دلّ على أنّ الشفتين تنطبقان في الميم في جميع الحالات» اهـ.

وقال الدكتور غانم قدوري الحمد:  «أرجّح الرواية التي تتطابق مع وصف علماء التجويد المتقدمين لنطق الميم المخفاة، وهي التي تؤكد على انطباق الشفتين عند النطق بالميم؛ لأن القول بانفراجهما لم تشر إليه المصادر القديمة، ولأنه لا يتوافق مع نظرية: (السهولة في نطق الأصوات) التي تتحقق عند النطق بانطباق الشفتين أكثر مما تتحقق عند النطق بانفراجهما». اهـ بتصرف.

وقال أبو محمد المالَقي في «الدر النثير»: «وحقيقة القلب هنا أن تَلْفِظَ بميم ساكنة بدلاً من النون الساكنة، ويُتَحَفَّظُ من سريان التحريك السريع، ومعيار ذلك: أن تنظر كيف تلفظ بالميم في قولك: الخَمْر، و: الشَّمْس، فتجد الشفتين تنطبقان حال النطق بالميم ولا تنفتحان إلا بالحرف الذي بعدها، وكذا ينبغي أن يكون العمل في الباء، فإن شرعتَ في فتح الشفتين قبل تمام لفظ الميم سَرَى التحريكُ إلى الميم -وهو من اللحن الخفي الذي ينبغي التَّحَرُّزُ منه-، ثم تلفظ بالباء متصلة بالميم، ومعها تنفتح الشفتان بالحركة، وَلْيُحْرَزْ عليها ما تستحقه من الشدة والقلقلة» اهـ.

قال الدكتور غانم قدوري: «وهذا النص وإن كان يختص بنطق الميم المنقلبة عن النون الواقعة قبل الباء فإنه ينطبق على نطق الميم الساكنة قبل الباء، يؤكد ذلك قولُ عبد الوهاب القرطبي: «فلا يوجد في اللفظ فرق بين قوله: {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ القَوْلِ} وبين قوله: {أَنْبِئُونِي}، سواء كان ما قبل الباء نونا أو ميما، لا فرق بينهما، كلُّه في اللفظ سواء»، كما يدل عليه عدمُ تفريق أهل الأداء في زماننا بين الحالتين.
ثم إن مذهب من يفتح شفتيه في نطق الميم الساكنة قبل الباء يثير إشكالا صوتيّا؛ لأن التأثر بين الأصوات المتجاورة يخضع لضوابط أو قوانينَ محددةٍ، ونُطْقُ كِلَا الصوتين -الميمِ والباءِ- يقتضي انطباق الشفتين، والفرق بينهما أن النَّفَسَ يجري مع الميم من الأنف، ويخرج مع الباء من الشفتين، وانفراجُ الشفتين أو انفتاحهما قليلًا يأتي بعنصرٍ صوتيٍّ جديد لا وجود له في العملية النطقية، ومن ثَمَّ فإن ذلك جاء خارجًا عن القوانين الصوتية التي تـخضع لها ظاهرة التأثر بين الأصوات المتجاورة في السلسلة الكلامية، كما أنه قد يزيد العملية النطقية صعوبة؛ وذلك لأن تأثر الأصوات بعضها ببعض حين تتجاور في الكلام يهدف إلى تحقيق أمرين:
الأول- السهولة في النطق عن طريق التقريب بين صفات الأصوات المتجاورة.
والآخر- الاقتصاد في المجهود عن طريق اختصار حركات أعضاء النطق.
وإذا حلَّلنا ظاهرة التقاء الميم الساكنة بالباء في ضوء هذين الأمرين سنجد أن انفتاح الشفتين بالميم يؤدي إلى زيادةٍ في عمل أعضاء النطق، ويأتي بعنصرٍ صوتيٍّ جديدٍ يتنافى مع مقصد التقريب بين الأصوات واختصار عملية النطق.
أما انطباق الشفتين في نطق الميم الساكنة والباء فإنه أقرب إلى تحقيق مقصد السهولة في النطق والاقتصاد في المجهود، فتندمج عملية انطباق الشفتين لنطق الميم بعملية انطباقهما لنطق الباء، سوى أن الناطق يرخي أقصى الحَنَكِ الليِّنِ عند نطق الميم ليجري الصوت في الخياشيم ثم يطبقه عند نطق الباء ليتحقق النطق بالباء شديدة، ويخرجُ الصوت من بين الشفتين بعد انفتاحهما» اهـ.

وقد قرر مجلسُ شيوخ قراء الشام أن إخفاء الميم الساكنة عند الباء يكون بانطباق الشفتين من غير إبقاء فُرجَةٍ بينهما، وذكروا أن هذا هو ما قرءوا به على شيوخهم( ).

وحكى الدكتور غانم قدوري الحمد عن قراء العراق أنهم يقرءون بالإطباق.

 وكذلك ذكر عدد من قراء مصر أنهم تلقوا هذا الإخفاء بإطباق الشفتين، ومنهم شيخ شيوخنا محمد بن عبد الحميد الإسكندراني (شيخ قراء الإسكندرية)، والشيخة أم السعد الإسكندرانية، وقد ذكرا أنهما لم يسمعا بمسألة الفرجة إلا مؤخرا.

والذين قالوا بالفرجة بَعضُهم أُتِيَ من قياس هذا الإخفاء على إخفاء النون في أكثر حالاتها، قالوا: إن الإخفاء لا بد أن يزول فيه الجزء الفموي. وقد وَجَدوا بعضَ النصوصِ المحتمِلة فعَضَدوا بِها هذا القياس. ولعله قد ظهر لك مما سبق خطأُ هذا القياس.

ومن المحتمل أيضا أن ظهور الفرجة تَطَوَّرَ عن تأكيدِ العلماء المتأخرين على تقليل انطباق الشفتين عند النطق بالميم المخفاة، فبالغ بعضهم في تقليل الانطباق حتى أدى به ذلك إلى الانفراج.

كتبه الأخ أبى عبد الرحمن علي الماكي حفظه الله
السبت 19 نوفمبر 2016
ضمن دورة شرح تحفة الأطفال
    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك